مواجهة الحقائق القاسية

أظھرت الشركات التي تحولت من الجيد إلى الأفضل صيغتين محددتين من الفكر المنضبط . الأولى, وھي عنوان ھذا الفصل, إن عملية المعالجة كانت تدور حول الحقائق القاسية للواقع. أما الثانية, والتي سنناقشھا في الفصل التالي, أنھم طوروا إطار بسيط وفعّال من الإجراءات لاتخاذ أي قرار. عندما تقوم بجھد صادق من أجل تحديد حقيقة الواقع, يكون القرار الصحيح واضح في أغلب الأحيان.

ھناك شيء ھام: لا يمكنك حتماً القيام باتخاذ سلسلة من القرارات الصحيحة بدون أن تواجه أولاً الحقائق القاسية. قامت الشركات التي تحولت من الجيد إلى الأفضل بالعمل بھذا المبدأ, بينما لم تقم الشركات المقارنة بشكل عام بالعمل به.

في اللحظة التي يسمح فيھا القائد لنفسه بأن يصبح الأولوية الأساسية التي يجب أن يقلق الأشخاص من سلوكھا, أكثر من كون الواقع ھو الأولوية الأساسية, عندھا تكون قد حصلت على الطريق الأسھل لأن تبقى جيداً, وحتى أسوأ من ذلك. ھذا واحد من الأسباب الأساسية التي تجعل من القادة أصحاب الشخصيات البارزة غالباً ما يحصلون على نتائج جيدة طويلة الأمد بشكل أقل من أصحاب الشخصيات العادية.

وينستون تشرتشل فھم مسؤوليات شخصيته القوية, وظھر ذلك بشكل رائع أثناء الحرب العالمية الثانية. قام تشرتشل, كما تعلمون, بالاحتفاظ برؤية جريئة بأن بريطانيا لن تنجو وحسب, بل ستسود كأمة عظيمة, بغض النظر عن أن كل العالم كان يتساءل متى سوف تطلب بريطانيا الھدنة وتستسلم. أثناء تلك الأيام الصعبة, عندما كانت تقريباً كل أوروبا وشمال أفريقيا تحت الحكم النازي, كانت الولايات المتحدة تأمل أن تبقى بعيدة عن النزاع, وكان ھتلر يقاتل جيشاً من أمامه (لم يكن قد توجه باتجاه روسيا بعد), قال تشرتشل: “نحن مصممين على تدمير ھتلر وكل أثر للنظام النازي. واجھوا ھذا, لن يمنعنا شيء من ھذا. لا شيء. لن نتفاوض لا مع ھتلر ولا مع أي أحد من عصابته. سنقاتله بر اً, وبحرا , وجواً حتى نستطيع بمساعدة لله أن نخلص الأرض من أثره”.
متسلحاً برؤيته الجريئة, لم يفشل تشرتشل أبداً في مواجھة الحقائق القاسية أمامه. لقد خاف بأن شخصيته البارزة ربما تؤثر على الأخبار السيئة وتمنعھا من الوصول إليه بدون تحريف. لذلك, في بداية الحرب, قام بإنشاء قسم كامل منفصل خارج سلسة القيادة, أسماه المكتب الإحصائي, وظيفته الرئيسية تزويده بشكل متتابع بمعلومات كاملة لم تخضع للفرز تمثل الحقائق القاسية للواقع. اعتمد بشكل قوي على ھذه الوحدة الخاصة خلال الحرب, كان بشكل متكرر يسأل عن الحقائق, الحقائق فقط.

المناخ الذي يمكن للحقيقة أن تكون مسموعة فيه

هنا يبرز لدينا سؤال مهم, “كيف تحفز الأشخاص ليعرضوا عليك الحقائق القاسية؟ ألا يأتي التحفيز بصورة رئيسية من الرؤية الجريئة”. الجواب, وبشكل مفاجئ, ھو “لا”. ھذا لا يعني بأن الرؤية غير ھامة, ولكن أن تقوم بإنفاق الوقت من أجل تحفيز الأشخاص يعتبر مضيعة للوقت. أحد السمات الأساسية التي ترد في ھذا الكتاب بأنك إذا نجحت بتطبيق نتائج ھذا البحث, عندھا لن تنفق وقتك وطاقتك من أجل تحفيز الأشخاص. إذا وضعت الأشخاص المناسبين في الحافلة, سيتم تحفيزھم عن طريق ضميرھم الداخلي. أما السؤال الذي يطرح نفسه ھو: كيف تنظم ھذا الأمر بدون أن تھمل تحفيز الأشخاص؟ واحد من أھم الأفعال المھملة للتحفيز ھي أن تتعلق بأمال خاطئة, والتي ستذھب بعيداً مع الريح كلما تقدم الزمن.

نعم, القيادة ھي الرؤية. ولكن القيادة تتعلق بخلق مناخ يمكن للحقيقة أن تكون مسموعة فيه وأن تواجه الحقائق القاسية. ھناك فرق كبير بين أن تتيح فرصة للآخرين بأن يتكلموا, وبين أن تتيح لھم الفرصة بأن يكون صوتھم مسموع. القادة في الشركات التي تحولت فھموا ھذه الحقيقة, إنشاء ثقافة يكون فيھا الأشخاص لديھم الحق في أن يسمع صوتھم, وأن تكون الحقيقة مسموعة أيضاً بشكلھا الكامل.
كيف تخلق مناخ يمكن للحقيقة أن تكون مسموعة فيه؟ ھناك أربع مبادئ:
1- قم بقيادة الأسئلة, وليس الأجوبة

في عام 1973 , بعد عام واحد من تسلم آلان فرتزل منصب الرئيس التنفيذي من والده, وقفت شركة Circuit City  على حافة الإفلاس. وكانت الشركة عبارة عن مزيج من المتاجر المتنوعة التي لا يربطھا مفھوم معين. وعلى مر السنوات العشر التالية, قام فرتزل وفريقه ليس فقط في تحويل مسار الشركة, ولكنھم أنتجوا سجل رائع من النتائج المذھلة, متفوقين بذلك على السوق العامة بفارق ضعفين منذ بدء التحول في عام 1982 وحتى عام 2000.
عندما بدأ آلان فرتزل انتقاله من حدود الإفلاس إلى النتائج المذھلة, بدأ بجواب مقنع عن السؤال, إلى أين سيقود الشركة: أنا لا أدري. حالما وضع الأشخاص المناسبين في الحافلة, لم يبدأ بالبحث عن الأجوبة, بل بدأ بالأسئلة. قال عنه أحد أعضاء مجلس الإدارة: “لقد كان آلان طفرة حقيقية, كان لديه المقدرة على أن يسأل الأسئلة المناسبة. في الواقع, كان آلان فرتزل واحد من الرؤساء التنفيذيين القليلين في الشركات الكبيرة الذين كانوا يسألون أعضاء المجلس لديھم أكثر مما كانوا يجيبون.

لقد استعمل نفس المنظور مع فريقه التنفيذي, الدفع المستمر والتقصي بالأسئلة. في كل خطوة من الطريق, كان فرتزل يسأل الأسئلة حتى يصل إلى فكرة واضحة عن الواقع وخفاياه. قال فرتزل: “لقد اعتادوا أن ينادوني المدّعي, لأنني كنت أسأل كثير اً.”

على غرار فرتزل, كان القادة في كل شركة من الشركات التي تحولت من الجيد إلى الأفضل يدير الشركة بأسلوب “سقراطي”. علاوة على ذلك, كانوا يسألون الأسئلة لھدف واحد فقط: أن يصبحوا قادرين على الفھم. لم يستخدموھا كشكل من أشكال التلاعب. أو كطريقة للوم الآخرين وإسقاطھم. عندما سألنا المدراء التنفيذيين عن اجتماعاتھم الإدارية خلال فترة التحول, قالوا أنھم قضوا معظم الوقت في محاولة الفھم وحسب.

القادة في الشركات التي تحولت قاموا باستخدام جيد للاجتماعات الغير رسمية, حيث كانوا يجتمعون مع فرق من المدراء والموظفين بدون نص ولا أجندة ولا نقاط محددة للمناقشة.
بدلاً من ذلك, كانوا يبدؤون بالسؤال التالي: ” إذاً, ماذا يدور في بالكم؟”, أو “ھل يمكن أن تخبرني عن ھذا؟”, ” ھل يمكن أن تساعدني لكي أفھم؟”, ” مالذي يجب أن نقلق عليه ؟”. ھذه الاجتماعات الغير رسمية أصبحت منتديات يستطيع الواقع أن يظھر فيھا بشكل جلي على السطح.

القيادة من الجيد إلى الأفضل لا تعني أن تأتي بالأجوبة ثم تحفز كل الناس من أجل أن يتبعوا رؤيتك المبدعة. إنھا تعني أن يكون لديك التواضع لتدرك حقيقة أنك لم تفھم كفاية لتملك الأجوبة, وأن تسأل الأسئلة التي تقودك لأفضل منظور ممكن.

2- انخرط بالنقاش والحوار, وليس الإجبار

في عام 1965 , كان من الصعب أن تجد شركة أسوأ من شركة نوكور كان لديھا قسم واحد فقط يدر المال. كان كل شيء سواه يستھلك المال. في بداية تحولھا عام 1965 , لم تكن الشركة قد أنتجت أي نوع من الفولاذ. بعد ثلاثين عاماً, تقف نوكور كرابع أكبر مصنع للفولاذ في العالم, وبحلول عام 1999 حققت أرباح سنوية أعلى من أي شركة فولاذ أخرى في العالم.

كما فعل آلان فرتزل, حلم كين أيفرسون الرئيس التنفيذي لشركة نوكور بأن يبني شركة عظيمة, ولكنه رفض بالبدء بالأجوبة عن كيف سيصبح كذلك. بدلاً من ذلك قام بلعب دور رئيس الجلسة في سلسلة النقاشات الحادة.

يقول كين: “لقد أسسنا سلسلة من الاجتماعات المستمرة للإدارة العامة, وكان دوري كوسيط للجلسة, كانت الفوضى تعم ونبقى ھناك لساعات, نقلّب المسائل بين أيدينا, حتى نصل إلى شيء ما .. أحيان اً, كانت الاجتماعات تصبح عنيفة كثيراً. كانوا يلوحون بأيديھم ويدقون على الطاولة. كانت الوجوه حمراء والعروق بارزة”.
أخبرنا مساعد كين بالمشھد الذي ظھر مراراً وتكراراً, حيث يدخل زملاؤه إلى مكتب كين, ويصرخون على بعضھم, ثم يخرجون بخاتمة. نقاش وجدال, ثم يتركون الأعمال النووية, نقاش وجدال, ثم يركزون على العوارض الحديدية, نقاش وجدال, ثم يبدؤون في صناعة فولاذھم الخاص, نقاش وجدال, ثم يقومون بالاستثمار في الطواحين الصغيرة, نقاش وجدال, ثم يبنون طاحونة أخرى, … وھكذا. تقريباً كل المدراء التنفيذيين في نوكور الذين تحدثنا معھم, وصفوا جو النقاش وكيف أن الوصول إلى استراتيجية الشركة تضمن الكثير من الخلافات المؤلمة والصراعات.
ومثل ما كان في نوكور, كان لدى كل الشركات التي تحولت من الجيد إلى الأفضل ميل نحو الحوار الحاد. وظھرت جمل مثل “نقاش صاخب”, “حوار ساخن” و “نزاع سلمي” في المقالات والمقابلات التي أجريت مع التنفيذيين في ھذه الشركات بشكل متكرر. لم يستخدموا الحوار كعملية زائفة من أجل أن يقول الناس عنھم أنھم “لھم رأيھم الخاص” ومن ثم يقوموا باتخاذ قرار محدد مسبق اً. كانت العملية أشبه بنقاش علمي ساخن, بين أشخاص يبحثون بشكل جنوني عن أفضل الأجوبة.

3- شرح التصرفات, بدون لوم

في عام 1978 , استحوذت شركة فيليب موريس على شركة 7UP. لتبيعھا بعد ثمان سنوات بخسارة. كانت الخسارة المالية صغيرة نسبياً مقارنة مع مجموع أصول شركة فيليب موريس, ولكنھا كانت ثقباً أسوداً استھلك آلاف ساعات الثمينة للإدارة.

في مقابلاتنا مع التنفيذيين في فيليب موريس, صدمنا حول الطريقة التي عرضوا بھا الكارثة وناقشوھا بانفتاح. بدلاً من الاختباء خلف خطئھم الكبير, وبدا كأنھم يشعرون بحاجة للحديث عن ذلك. في كتاب جو كولمان “أنا رجل محظوظ”, خصص جو خمس صفحات ليشرح كارثة 7UP, لم يخفي الحقيقة المحرجة حول كيفية اتخاذ القرار. خمس صفحات من التحليل السريري لخطئه, ونتائج خطئه, والدروس التي تعلمھا.

المئات, إذا لم يكن الآلاف من الساعات صرفت لتشريح قضية 7UP, مع ذلك بقدر ما تكلموا عن ھذا الفشل الواضح, لم يتجه أحد لأن يلوم شيء ما أو أحد ما. كان ھناك استثناء واحد لھذا النمط: جو كولمان, وقف أمام المرآة, مشيراً إلى نفسه. كتب جو كولمان: “لقد أصبح من الواضح بأن ھذه خطة أخرى من خطط جو كولمان التي لم تنجح”. حتى أنه ذھب لأبعد من ذلك, مشيراً بشكل ضمني إلى أنه لو أنصت بشكل جيد إلى الأشخاص الذين تحدوا فكرته في ذلك الوقت, لربما كان من الممكن أن يتفادوا ھذه الكارثة. وعاد إلى طريقته في إرجاع الفضل للأشخاص الذين كانوا محقين في وجھة نظرھم, مسمياً أولئك الأشخاص المحددين الذين كانوا أكثر بصيرة منه.

عندما تقوم بشرح التصرفات بدون لوم, تكون قد قطعت شوطاً كبيراً في خلق مناخ يمكن للحقيقة أن تسمع فيه. إذا كان لديك الأشخاص المناسبين في الحافلة, لن تحتاج أبداً لأن تلقي باللوم على أحد ولكنك تحتاج فقط إلى أن تبحث عن الفھم والتعلم من الخطأ.

4- بناء آلية “العلم الأحمر”

في الواقع, لم نجد أدلة تشير إلى أن الشركات التي تحولت من الجيد إلى الأفضل كان لديھا معلومات أكثر أو أفضل من الشركات المقارنة. كلا الصنفين من الشركات كان لديه كمية كبيرة من المعلومات الجيدة. إلا أن المفتاح يكمن ليس في جودة المعلومات, ولكن في تحويل المعلومات إلى معلومات لا يمكن تجاھلھا.

أحد الطرق القوية لإنجاز ھذا ھو آلية العلم الأحمر. ولأبين ھذه الآلية سأطرح المثال التالي, عند قيامي بالتعليم في كلية إدارة الأعمال في ستانفورد, أعطيت لكل طالب في صف الـ MPA ورقة حمراء بحجم A4, مع التعليمات التالية: “إن ھذه الورقة ھي علمك الأحمر من أجل بقية الفصل. إذا رفعت اليد التي فيھا الورقة الحمراء, سيسكت كل من في القاعة ليستمع لك. لا يوجد قيود عن متى أو كيف ستستخدم العلم الأحمر: القرار يكمن كلياً بين يديك. يمكنك أن تستخدمه لتذكر ملاحظة, تشاركنا بتجربة شخصية, تقدم تحليلا , تعارض البروفسور, تتحدى الرئيس التنفيذي الذي نستضيفه, ترد على زميل لك, تسأل سؤال, تقترح اقتراح, وكل شيء. وليس ھناك عقوبة أو ما شابه لأي استخدام للعلم الأحمر. وكل شخص يمكن أن يستخدم العلم الأحمر لمرة واحدة في الفصل. لا يمكن وھب, إعطاء, أو بيع العلم الأحمر.
لم يكن لدي فكرة واضحة حول ما سيحدث في الفصل. في أحد الحالات, استخدمت إحدى الطالبات العلم الأحمر لتقول: “بروفسور كولينز, أظن أنك تقوم بعمل غير مؤثر جداً في إدارة الصف اليوم. أنت تؤثر علينا كثيراً بأسئلتك وتضيق على تفكيرنا المستقل. دعنا نفكر بمفردنا”. العلم الأحمر وضعني وجھاً لوجه مع حقيقة قاسية, ھي أن أسلوبي في السؤال يقف في طريق تعلم الطلاب. قد يعطيني استبيان الطلاب الذي أجريه في نھاية الفصل المعلومات نفسھا. ولكن العلم الأحمر – في الوقت الفعلي أمام كل من في القاعة – قام بإيصال المعلومات إليّ , بسرعة وحولھا إلى معلومات لا أستطيع تجاھلھا إطلاقاً.

وفي بحثنا وجدنا بأنك إذا كنت قائد مطبق لكل مبادئ المستوى الخامس, عندھا لن تحتاج لآلية العلم الأحمر. ولكن إذا لم تصبح بعد قائداً من المستوى الخامس, أو كنت تعاني من مسؤولية الشخصية البارزة, عندھا فإن آلية العلم الأحمر سوف تكون كأداة مفيدة وعملية من أجل تحويل المعلومات العادية إلى معلومات لا يمكن تجاھلھا, وبأن تخلق مناخاً يمكن للحقيقة أن تسمع فيه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *